في الثالثة فجراً رأى مكاناً مألوفاً لديه، قادته الصدفة أن يكون قريباً منه، وكأنه على موعد لغسل عينيه بالدموع، مكان أعاد له حياة 17 عاماً بكل تفاصيلها ومراحلها وصعوباتها، بنجاحاتها واخفاقاتها، بلياليها الطويلة التي لم يكن فيها نهاراً قط.
حينما كان يغادر هذا المكان قبل سنوات في هذا الوقت تحديداً، كان يتأبط صحيفته ويمشي سريعاً يتأمل تفاصيل الهدوء الذي لا يقاطعه سوى صوت المطابع ورائحة الحبر، في هذه اللحظة كانت «كل الطرق تؤدي إلى روما».
الصحافة ليست وظيفة، ولا عملاً تقليدياً، الصحافة «حياة» مختلفة مليئة بالشغف والإبداع، بالفكر والفكرة، إطارها المثابرة والاجتهاد، ومُخرجها المعلومة والمعرفة. في الصحافة نتعلم أمراً مهماً وهو «الاعتياد على المتاعب»، ولذلك سُميت بـ«مهنة المتاعب» لأنها لا تعرف الزمن ولا الزمان، الانغماس فيها يعني الابتعاد عن الحياة الحقيقية، وكأنها «عالم افتراضي» مواز لعالمنا الحقيقي، من يدلف باب الصحيفة نهاراً يخرج ليلاً وكأن الحياة تغيرت بينما هو في دهاليز عالم آخر، هذه «الحكاية» باختصار، هي حكاية «شغف» قبل كل شيء لا حدود لها تمتد منذ بداية التعلق بها حتى آخر يوم في العمر.
في الصحافة، «التواضع» والاهتمام بالجوهر وليس الشكل أولاً وقبل كل شيء، نهيم بالإبداع ونحب المبدعين وأصحاب الفكر، نعانق القراءة يومياً، نقرأ كل شيء، ونكتب عن كل شيء، فلسفة للحياة مختلفة ترى تفاصيل لا يراها الناس، «كتابة القصة» يعني أنك تعزف «سيمفونية»، تقرأها مراراً وتكراراً، تهتم بتناغمها، وقوة كلماتها ومحتواها، تعشق النظر إليها باستمرار وكأنك ترى لوحة فنية عظيمة، تبتسم حينما تراها على الصفحات وفي مواقع التواصل، وحينما تراها، لا تكتفي بالنظر إليها ولا الاحتفاء بها، بل تعيد قراءتها لتستمتع بها مجدداً هي خليط من الإبداع… إبداع سمعي وبصري، أحرف وكلمات تداعب الفكر وتسعد النفس وتبهج الخاطر.
الكتابة في الصحافة هي توثيق، عمل يجمع مكونات عدة، فإذا كان الحديث الشفوي يُنسى، فالكتابة لا تُمحى، تظل في دفاتر الزمن، لذلك للكلمة وزنها، وثقلها، وتأثيرها، واختيارها من بين مئات الكلمات للتعبير عن فكرة عمل ذهني يصنعه صحافي مبدع يجلس ساعات طويلة خلف شاشة ولوحة مفاتيح لذلك الصحافة تعيد ترتيب أوراق الذهن، والنظرة للحياة، على الرغم من استحواذها على جميع التفاصيل إلا أنها لا تُمل، فأكسجين الصحافي هي الصحافة ولا شيء غير ذلك. هي وجهة السعادة والإبداع.
أضف تعليق